ربما هو أحد الأسئلة التي خطرت على أذهان الكثير منا في مرحلة ما. لماذا لا تقوم البنوك المركزية بطباعة المزيد من الأموال وتسدد ديون حكوماتها وتساعد الفقراء وتعفي الناس من الضرائب ويصبح الجميع أفضل حالاً؟
وإذا كانت هناك إجابة مباشرة ومختصرة لهذا السؤال فهي أن قيام أي حكومة بهذه الخطوة يهدد بانزلاق بلادها إلى مستنقع التضخم المفرط الذي بإمكانه تدمير الاقتصاد حرفياً. طباعة المزيد من الأموال لا تجعل المواطنين أكثر ثراءً، والتأثير الفعلي لتلك السياسة هو ارتفاع الأسعار.
الفرق بين النقود والثروة
الثروة لا يتم إنشاؤها عن طريق طباعة النقود، لأن النقود ما هي إلا ممثل للثروات الموجودة. وبالتالي فإن طباعة المزيد من النقود دون زيادة الثروة التي تمثلها ستتسبب في أن كل وحدة من هذه النقود ستمثل شريحة أصغر من الثروة التي تم تقسيمها إلى شرائح أكثر.
كيف تُحدد قيمة العملة وعلى اي اساس يتم طباعتها؟
اقتصاديا، يجب ان يتناسب ضخ العملات النقدية في السوق من طرف الدولة مع حجم الاقتصاد ومع حجم الانتاج المحلي. يعني هذا أن كل وحدة نقدية مطبوعة لا بد أن يقابلها رصيد من احتياطي النقد الأجنبي أو رصيد ذهبي، أو سلع وخدمات حقيقية يتم إنتاجها في المجتمع، حتى تكون النقود المتداولة في السوق ذات قيمة حقيقية وليست مجرد أوراق مطبوعة.
اذا تم ضخ عملات نقدية أكبر من حجم الاقتصاد ( السلع والخدمات واحتياطي النقد الاجنبي.. ) ، تقل القيمة الشرائية للعملة وترتفع الاسعار ويرتفع معها التضخم وتصل الدول لحالة من اللاستقرار الذي يجرها إلى الانهيار الاقتصادي و تنهار معه البنية الاجتماعية وباقي القطاعات.
إن طباعة النقود من قبل البنك المركزي عملية فنية معقدة اقتصاديًا، وفي حال طباعة نقود دون أن يكون لها غطاء ، سيؤدي ذلك إلى نتيجة أساسية واحدة، هي: ارتفاع الأسعار، حيث يزيد المعروض النقدي دون أن يقابله زيادة موازية في السلع والخدمات. ونتيجة لذلك يفقد الناس الثقة في العملة المحلية، فتحدث موجة من التشاؤم تؤدي إلى أن يقوم الناس بالتخلص مما لديهم من هذه العملة وشراء عملات أجنبية أو أصول عينية مثل العقارات والذهب، والذي يؤدي إلى مزيد من انخفاض قيمتها، والذي يؤدي في النهاية إلى انهيار قيمتها ومن ثم الانهيار الاقتصادي.
تفسير غير العلمي
لو قامت الدولة بطبع الكثير من المال واصبح الجميع يمتلك منه الكثير! طبعا إذا اصبح الجميع اثرياء، لن يبقى هناك من يزرع الخضروات ولا من ينقلها ولا من يبيعها لك، لن تجد من يصلح لك سيارتك ولا يحلق شعرك.. لأن الجميع ببساطة أصبح مليارديراً وليس بحاجة للعمل الذي يدر عليه المال.. بالتالي تتعطل الحياة.
التفسير العلمي
النقود مثل اي سلعة اخرى تطبق عليها قوانين الاقتصاد الاساسية وقواعد الطلب والعرض، بمعنى ان اسعار السلع والخدمات تحدد عن طريق آلية العرض والطلب، فكلما زاد العرض لسلعة معينة (بفرض ان الطلب ثابت) سيقل سعر السلعة لان الكمية الموجودة في السوق زائدة عن الحاجة وتغطي طلبات الافراد (هناك فائض اكثر من الحاجة)، مما يدفع المنتجين الى تقليل اسعار منتجاتهم كاستراتيجية للتسويق وطريقة لتحفيز للأفراد لشراء كميات اكبر. والعكس ايضا صحيح، كلما قل العرض لسلعة معينة، سيرتفع سعرها لان الكمية المعروضة قليلة لا تلبي احتياجات الافراد، لذلك يدفع الافراد الراغبين بهذه السعلة ان يدفعوا مبالغ اكبر من السعر السابق للحصول على السلع قبل نفاذ الكمية.
نفس المفهوم يطبق على النقود، اذا كانت كمية النقود المطبوعة (العرض) اكبر واسرع من النمو الاقتصادي الطبيعي الذي تحققه الدولة، سيقود ذلك الى توفر سيولة (نقود) اكثر من المعتاد في متناول الافراد، وهذه السيولة ستدفع بالمستهلكين لشراء كميات اكبر من البضاعة والخدمات، وبالتالي الطلب الكلي على البضاعة سيرتفع، مما يشجع المنتجين برفع اسعار سلعهم لتناسب نسبة الزيادة في الطلب.
على سبيل المثال: فقط لتبسيط الموضوع سنفترض بان الاقتصاد يحتوي فقط على سلعة واحده وهي “التفاح” ، والكمية المعروضة هي 100 تفاحة، والنقود المتوفرة في السوق (لدى الافراد او المجتمع) هي 100 عملة محلية، اذا قامت الدولة بطباعة نقود اضافية بقيمة 100 عملة، ستكون المحصلة النهائية للنقود هو 200 عملة امام 100 تفاحة فقط، يعني في السابق كانت التفاحة الواحدة تساوي 1 عملة محلية، لكن بعد الزيادة اصبحت 2 عملات يعني تضاعفت الاسعار !!
يوضح هذا المثال المسبط أن طباعة النقود من غير وجود نمو فعلي في الاقتصاد سيسبب تضخم في الاسعار (Hyper Inflation) مثل ما حصل في ألمانيا عام 1920، لأن كمية النقود ستكون أكبر من الانتاج المحلي (السلع والخدمات) مما سيدفع المنتجين الى رفع اسعارهم حتى تتناسب مع قوة الطلب وتوفر السيولة. في نهاية الامر ستتحول هذه الوفرة المالية الى نقمة على الافراد لان القوة الشرائية للعملة ستقل، بحيث كانت 100 عملة محلية تلبي 100 تفاحة، لكن بعد طباعة النقود اصحبت 100 عملة تشتري 50 تفاحة فقط (لان سعر التفاحة اصبح 2 عملات).
هذا السيناريو حدث بالفعل وبشكل فظيع لدولة زيمبابوي سنة 2008، إذ عادل السِنت الأمريكي الواحد 500 مليار دولار زيمبابوي، الأمر الذي جعل الحكومة في ذلك البلد توقف التعامل بالعملة المحلية وتستبدله بالدولار الأمريكي أو الراند جنوب إفريقي.
وشبيه أيضا بما حدث مع الجنية المصري خلال الخمس سنوات الأخيرة، فقد كان يعادل خمسة دولارات قبل الثورة، وبسبب تمويل عجز الموازنة العامة بالاقتراض وبعد تفاقم الديون ، قامت الحكومة بمزيد من طباعة الجنية المصري دون غطاء، إلى أن أصبح الدولار يساوي أكثر من 15 جنيها. والأمر سيأخذ في التدهور والانهيار في قيمة الجنية المصري إذا استمرت السياسات الحكومية على هذا النحو.
لفهم التداعيات الخطيرة لطباعة الاموال دون أن يتناسب ذلك مع الاقتصاد المحلي الفعلي، علينا استحضار ازمة اقتصاد فنزويلا، التي يعيش اقتصادها حاليًا أسوأ أزمة في تاريخها، تكاد تودي بانهيار البلد، وذلك بسبب التضخم الناجم عن قيام الحكومة الفنزويلية بطباعة مفرطة وغير محسوبة للعملة الوطنية، مما أفقد العملة الفنزويلية %99 من قيمتها، وانكب الناس على الاستهلاك فنفد العرض من السوق، حتى باتت رفوف المتاجر ومخازن الأدوية فارغة في فنزويلا.
وبعد هذا التحليل المبسط، إذا كنت تعتقد أن طباعة الأموال ستحل المشكلة فأنت مخطئ، لأن ذلك سيعمق الازمة و يؤدي لانهيار الاقتصاد، لأن الطباعة غير المدروسة للعملة وضخها بدون ضوابط سيفقدها قيمتها السوقية، ليتحوّل السواد الأعظم من الشعب لمليونيرات وحتى مليارديرات ولكنهم عاجزين عن شراء شيء للأسعار الفلكية الخاصة بالمنتجات والخدمات والسلع.